Archive for category يسار … عكس يمين

الوهابية وإخوان مصر وتاريخ التبعية للغرب

محمد طعيمة

في مذكراته، يتباهى ونستون تشرشل بأنّ «العرب مدينون لبريطانيا، وحدها، بوجودهم كدول. نحن من خلقها». هو تعميم خاطئ، ويتجاهل، كمثال، أنّ أعرق خرائط الدول على الإطلاق هي عربية، أي مصر. لكن أشهر رؤساء وزراء الإمبراطورية، التي لم تكن تغرب عنها الشمس، كان محقاً نسبياً في ما يتعلق بعرب الخليج. في ذاكرة تشرشل، ومن سبقوه في رسم «خرائطنا»، لعبة شعبية بريطانية يتقاتل فيها «الأسقف» و«الشيخ/ رجل الدين» محمد علي، مؤسس مصر المدنية الحديثة، الذي لم يكن شيخاً بالطبع، لكنّه اللعب بالدين.
في كتابه «الإفريقية الآسيوية»، الصادر في 1956، يُثمن المفكر الجزائري الإسلامي مالك بن نبي «تفادي ثورة يوليو المصرية ما أراد الغرب أن يسجن فيه العالم الإسلامي، باستدراجه للتركيز على قضايا جانبية وإدارة الظهر للقضايا الأساسية وللتوجهات الكبرى، ليعطّل أو حتى يوقف تطور المسلمين». ويتهم بن نبي جماعة الإخوان بالغرق في «الاستدراج» لنظلّ بين فكّي الاستعمار والقابلية للاستعمار. كانت دولة عبدالناصر نموذجاً متطوراً نسبياً لتجربة محمد علي.
بقي نموذج محمد علي «عفريتاً» يخشى الغرب تكراره، عبر بناء دولة مدنية قادرة على حماية ثروات شعوبها، فكان «الاستدراج» هو الوجه الثاني لـ«تديين» صراعه مع الشرق العربي. وهو، وإن حافظ على «صليبية» خطابه المحلي في صراعه مع العرب، حتى في لعب الأطفال، طوّر توظيفه للدين عربياً ليحوّله إلى «سوس داخلي» ينخر أية فرص لتقدم العرب/ المسلمين. من اجل ذلك، استحضر عدواً تاريخياً لمدنية محمد علي، أي تحالف آل سعود والوهابيين، الذين قضى والي مصر على دولتهم الثانية، وأذلّهم ابنه إبراهيم باشا بإجبارهم على سماع الموسيقى!
كانت الوهابية هي «السوس» التي رأى «خالق الخرائط» أنّها ستستدرج الشرق العربي إلى نمط فكري ديني، يُلهي شعوبه عن أي تقدم.
قبل الربيع العربي، ومنذ عقود، يعايرنا الغرب بـ«واحة الديموقراطية الوحيدة» في المنطقة، إسرائيل. وقبل سنوات، دشن حملة ابتزاز لنظم حكمنا، شعارها الدمقرطة، بالتزامن مع حربه ضد «الإرهاب الإسلامي». قد يرد بعضنا على الغرب بأنّ إرهاب «القاعدة» صُنع في مطابخ استخباراته تحت شعار الجهاد ضد الشيوعية. وقتها كان المسؤولان عن الملف إقليمياً هما نائب رئيس مصر حسني مبارك، وولي العهد المملكة العربية السعودية عبدالله آل سعود. لكن الرعاية الغربية لـ«سوس» الإسلام أقدم تاريخياً من القاعدة.
من «أشيك» شعارات الدمقرطة الغربية هي «تمكين المرأة». ونحن العرب لدينا إمرأة عربية هي فاطمة الزامل السبهان القويعي، التي كانت «مُمَكنة» فعلاً قبل مائة عام، في قلب البادية، وقبل أن تمنح دول أوروبية عديدة حق التصويت لنسائها. حكمت فاطمة إمارة حائل في 1911، كوصية على حفيدها سعود الرشيد، الذي كان طفلاً حين قتل الأمير سعود الحمود الرشيد، تاسع حكام الإمارة في 1908. كان الطفل منفياً لدى أخواله، لكن «نظام» توارث العرش حماه، ليُستدعى ويتولى الحكم تحت وصاية خاله، ثم جده. وبعد وفاتهما بالتوالي، اختار شيوخ الإمارة جدته فاطمة وصية وحاكمة. كانت مثقفة وذات وعي سياسي متطور، ملأت الخزانة ودعمت الأمن الداخلي والعلاقات الخارجية، وتميزت كـ«قائدة للجيش النظامي ومُطورة لخطط تسليحه». أثناء وصايتها الرسمية، لم تخض أي حرب، فآل سعود، العدو الأول لحائل، وقعوا اتفاقية ترسيم الحدود مع الإمارة في 1907، لكن سياسة فاطمة مهدت لأكبر انتصار لحائل على آل سعود، في صراعهما الذي يعود للقرن الثامن عشر. هكذا، بعد سنة واحدة من تسليمها الحكم نظرياً لحفيدها وعمره 15 عاماً، كانت تُلحق بالسعوديين هزيمة افتقدوها منذ 1902، عُرفت بـ«معركة جراب»، لتسترد إمارة الجوف وتوابعها. قالت المندوبة السامية البريطانية غرترود بيل بأنّه «لا أحد يكره الوهابيين والسعوديين كما فاطمة السبهان». حين قُتل الحفيد، بعد وفاة الجدة، ترك ضمن زوجاته الأميرة الفهدة، ليتزوجها في ما بعد عبد العزيز، مؤسس دولة آل سعود الثالثة، وتنجب له عبدالله، الملك الحالي، والأميرتين صيته ونوف. واغتيل أشهر أحفاد سعود الرشيد، عبد العزيز، في الجزائر في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2003.
كانت لإمارة حائل عاصمة ولغة وديانة رسمية، ودستور عُرفي يصف نظام حكمها بالملكي وينظم توارثه. بعد إرهاصات امتدت لأكثر من قرن، تأسست رسمياً في 1834، على يد عبدالله وأخيه عبيد العلي الرشيد. وفي عصرها الذهبي 1873 ــ 1897، لم يخف حاكمها محمد العبدالله الرشيد إعجابه بتجربة محمد علي.
لا نتحدث عن كيان عابر، بل عن دولة توسعت لتضم بين 1850 و1902، المناطق ما بين جنوب دمشق وشمال نجران قرب اليمن، وما بين حدود الحجاز حتى نجد. انتهت إمارة حائل في 1920 على مذبح «الإخوان»، الاسم الرسمي لعصابات آل سعود المُقاتلة، التي تزخر الوثائق البريطانية بقصص وحشيتها ضد مُخالفي مشروعها الديني، الوهابية، الذي تتزاحم في خطابه، ظاهرياً، شعارات عداء الغرب وديانته. كانت لندن مموّل «إخوان» آل سعود ومصدر تسليحهم. في 1927، حلّ بن سعود عصابات الإخوان وذبح قادتها، وبعد أشهر عدّة كانت جماعة أخرى «مُشوهة» للإسلام تولد بالاسم نفسه، وبشعار مُقارب، في الإسماعيلية المصرية. كان مؤسس تلك الجماعة الجديدة، حسن البنا، ضيفاً سنوياً على آل سعود.
في كتابه «حسن البنا الذي لا يعرفه أحد» الصادر بالقاهرة في حزيران/ يونيو الماضي، يورد الباحث المصري حلمي النمنم شهادة للمفكر محمد حسين هيكل (1888 ــ 1956) الذي تصادف سفره إلى السعودية مع حسن البنا على الباخرة نفسها «عن حفاوة الاستقبال الذي حظي به البنا». كما يورد شهادة لسفير أميركا بجدة، حينئذ، هيرمسان آيلتس، عن اجتماعه بالبنا مرات عدّة. هكذا، عاد لنا البنا بـ«ستايل» مختلف للإخوان، ليتلقى أول دعم مالي غربي علني من شركة قناة السويس. وسيثبت لنا الباحث البريطاني مارك كيرتس في كتابه «العلاقات السرية: تواطؤ بريطانيا مع الإسلام المتشدد» (حزيران/ يونيو 2010) كيف موّلت لندن إخوان البنا، «ربما» حتى الآن. هكذا كان مناهضو الاستعمار ينشغلون بقضايا التحرر الوطني والاجتماعي، فيفجر البنا قضايا تطبيق الحدود ومنع عمل المرأة وحجابها. وهكذا، كما يستند كيرتس لوثائق الإمبراطورية، ظل الإخوان، بالتوازي مع آل سعود، شوكة في ظهر الدولة المصرية الثانية، دولة عبدالناصر. حتى أثناء العدوان الثلاثي على وطنهم. كانوا وجهاً آخر لـ«الاستدراج»، يلائم بيئة حضرية كمصر.
خلال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر والثلث الأول من القرن العشرين، تنافست ثلاثة مشاريع على حكم جزيرة العرب العائمة على النفط: آل رشيد/ حائل، آل سعود/ نجد، الهاشميون/ الحجاز. العائلات كلّها تدور في فلك الغرب، ومن عاصمته المركزية حينئذ، لندن، تأتي عطايا وأسلحة شيوخها. كلّها ترد شرعيتها لشعارات دينية، الفارق الوحيد بينها في «مفهوم» الإسلام الذي تريد السيطرة به.
اختفت دولة آل الرشيد، وتم تعويض الهاشميين بـ«اختلاق» إمارة شرق الأردن كـ«كيان وظيفي»، وشارك إخوان البنا في حماية سنواتها الأولى عبر عبدالحكيم عابدين، زوج شقيقة البنا وسكرتير عام الجماعة، وستصبح الجماعة شريكة في الحكم حتى «تحوّر» دور ابنتها حماس، مع إعلان الشاعر محمود درويش «مدنية» الميثاق الوطني الفلسطيني.
انحاز الغرب لبقاء وتوسع المشروع السعودي الوهابي، الأكثر عداوة لثقافته، لكنّه «عملياً» يستدرج المسلمين نحو مزيد من التخلف. انحاز، خالق الخرائط، لدولة يُلهينا خطابها الديني بعداء «الغرب الصليبي»، بينما سياستها تصب في خزانة «الغرب الناهب». خطاب، بتنوعاته، لا يتوقف عن محاولة «كعبلتنا»، فعصام العريان، القيادي الإخواني البارز، الذي صُدّر كوجه مدني يُلقن قبيلة الإخوان، في المنوفية بدلتا مصر، بعد «ثورة يناير» قال إنّ «تدمير مصر بدأ مع محمد علي».
انحاز الغرب لدولة هي، من قبل ومن بعد، والآن، مُصدرة وراعية «التوظيفات» المُشوهة للدين، المُحاربة لحلم الدولة المدنية، خاصة في مصر، بوتقة أي حلم نهضوي عربي، وها هي تشوه حلم «التحرير» بأعلامها، وبـ«جمعة هوية» محاولة جذبه إلى «قندهار».

أضف تعليق

الإسلام السياسي في خدمة الإمبريالية

سمير أمين 

محمد الجندي
جميع التيارات التي تدعي الانتماء إلى الإسلام السياسي تعلن “خصوصية الإسلام”، وفي رأيهم الإسلام لا يعرف أي فصل بين السياسة والدين، وهو أمر يفترض أنه مختلف عن المسيحية، ولا يفيد في شيء أن يذكرهم المرء، كما فعلتُ، أن ملاحظاتهم تعيد كلمة فكلمة تقريباً ما قاله الرجعيون الأوروبيون في بداية القرن التاسع عشر (مثل بونالد BONALD وميتر MAISTRE) لإدانة الفصل الذي أحدثه التنوير ENLIGHTENMENT والثورة الفرنسية في تاريخ الغرب المسيحي.
على أساس ذلك الموقف يختار كل تيار من الإسلام السياسي أن يقود معركته على أرضية الثقافة، غير أن “الثقافة” قلصت في الواقع الحالي إلى قول اصطلاحي بالانتماء إلى دين محدد. وفي الحقيقة مناضلو الإسلام السياسي لا يهتمون بمناقشة الدوغما (العقائد) التي تؤلف الدين. التأكيد الشعائري على العضوية في الجماعة هي كل ما يشغلهم.
ومثل هذه الرؤية للواقع في العالم المعاصر ليس مؤلماً فقط بسبب الفراغ الواسع الذي ينطوي عليه للفكر، وإنما أيضاً لأنه يبرر استراتيجية الإمبريالية في إحلال ما يسمى بصراع الحضارات بديلاً للصراع بين المراكز الإمبريالية والأطراف المهيمن عليها. إن التشديد الوحيد على الحضارة (الثقافة) يسمح للإسلام السياسي بأن يحذف من كل مجالات الحياة المواجهات الاجتماعية الواقعية بين الطبقات الشعبية والنظام الرأسمالي العالمي الذي يضطهدهم ويستغلهم. مناضلو الإسلام السياسي لا وجود حقيقياً لهم في المجالات التي تجري فيها صراعات اجتماعية واقعية، وقادتهم يكررون باستمرار أن مثل تلك الصراعات لا أهمية لها. الإسلاميون موجودون فقط في مجالات المدارس المفتوحة والمستوصفات الصحية، ولكن ليست هذه سوى أعمال إحسان، وسوى وسيلة للتخريب. إنها ليست وسيلة لدعم كفاح الطبقات الشعبية ضد النظام المسؤول عن فقرهم.
على أرض المسائل الاجتماعية الحقيقية يقف الإسلام السياسي في خندق الرأسمالية والإمبريالية المهيمنة، إنه يدافع عن مبدأ الطبيعة المقدسة للملكية، ويجيز عدم المساواة وكل متطلبات إعادة الإنتاج الرأسمالي، ودعم الإخوان المسلمين في البرلمان المصري للقوانين الرجعية الحديثة التي تعزز حقوق ملكية المالكين على حساب حقوق المزارعين المستأجرين (ويؤلفون أغلبية الفلاحين الصغار) ليس سوى مثال بين فئات أخرى. لا يوجد مثال ولو قانوناً رجعياً واحداً، مقراً في أي بلد إسلامي عارضته الحركات الإسلامية. زيادة على ذلك، مثل تلك القوانين تقر وتنشر بموافقة قادة النظام الإمبريالي. الإسلام السياسي ليس ضد الإمبريالية، حتى ولو ظن مناضلوه عكس ذلك ! إنه حليف ثمين للإمبريالية، وهذه تعرف ذلك، ومن السهل أن يفهم المرء والحالة هذه، أن الإسلام السياسي بقي دوماً في صف الطبقة الحاكمة السعودية والباكستانية، عدا عن ذلك كانت تلك الطبقات منذ البداية الأولى من بين أنشط المشجعين له.
البرجوازية الكومبرادورية المحلية، والأغنياء الجدد، المستفيدين من العولمة الإمبريالية الحالية يدعمون الإسلام السياسي بسخاء، وهذا تخلى عن المنظور المعادي للإمبريالية، واستبدله بالموقف “المعادي للغرب” (تقريباً “المعادي للمسيحية”)، الذي لا يفعل بداهة سوى أن يقود المجتمعات ذات العلاقة إلى مأزق ولا يؤلف بالتالي عائقاً لنشر السيطرة الإمبريالية على النظام العالمي.
الإسلام السياسي ليس فقط رجعياً في بعض المسائل (ولا سيما فيما يتعلق بوضع المرأة)، وربما هو مسؤول عن التعصب المتطرف الموجه ضد المواطنين غير المسلمين (مثل الأقباط في مصر)، إنه رجعي بأساسه، ومن الواضح بالتالي أنه لا يستطيع المساهمة في التقدم في تحرير الشعب.
تطرح مع ذلك ثلاث مبررات لتشجيع الحركات الاجتماعية جملة للدخول في حوار مع حركات الإسلام السياسي، الأول هو أن الإسلام السياسي يعبئ جماهير شعبية عديدة، لا يمكن تجاهلها أو احتقارها. ثمة صور عديدة تعزز حتماً هذا الطرح، لكن يجب على المرء أن يحافظ على صفاء ذهنه، وأن يقوّم بشكل صحيح التعبئة المعنية. “النجاحات” الانتخابية، التي نظمت توضع في حجمها حالما تخضع لمزيد من التحليل الدقيق. أذكر هنا مثلاً، النسبة الكبيرة من الامتناع عن التصويت ـ أكثر من 75% ! ـ في الانتخابات المصرية. إن قوة الشارع الإسلامي هي إلى حد كبير مجرد الصورة المعكوسة لضعف اليسار المنظم، الغائب عن المجالات التي تحصل فيها الصراعات الاجتماعية الجارية.
حتى ولو قبل المرء أن الإسلام السياسي يعبئ حالياً أعداداً كبيرة، أذلك يبرر الاستنتاج أن اليسار يجب أن يحاول ضم المنظمات الإسلامية السياسية في تحالف من أجل العمل الاجتماعي أو السياسي، إذا كان الإسلام السياسي يعبئ بنجاح أعدادا كبيرة من الناس، فهذا مجرد واقع، وأي إستراتيجية سياسية فعالة يجب أن تدخل ذلك الواقع في اعتباراتها وفي مقترحاتها وفي خياراتها. أما محاولة التحالف، فليس وسيلة للتعامل مع ذلك التحدي. ويجدر التدليل أن منظمات الإسلام السياسي ـ الإخوان المسلمين بوجه خاص ـ لا يسعون إلى مثل ذلك التحالف، بل إنها ترفضه. إذا حصل أن اعتقدت بعض المنظمات اليسارية السيئة الحظ بالصدفة، أن المنظمات الإسلامية السياسية قبلتهم، فإن أول قرار تتخذه هذه بعد النجاح في الوصول إلى السلطة، يكون تصفية الحليف العبء بعنف مفرط، كما كان الأمر في إيران مع المجاهدين وفدائيي خلق.
والمبرر الثاني الذي يطرحه أنصار “الحوار” هو أن الإسلام السياسي حتى ولو كان رجعياً في الأمور الاجتماعية، فهو “معاد للإمبريالية”. لقد سمعت القول، إن المقياس لذلك الذي اقترحه (وهو الدعم غير المحدود للمعارك، التي تخاض من أجل التقدم الاجتماعي) هو (أي المقياس) “اقتصادي”، ويهمل الأبعاد السياسية للتحدي الذي يواجه شعوب الجنوب. أنا لا أعتقد أن هذا الانتقاد صحيح، إذا ما أخذ في الاعتبار ما قد قلته عن الديمقراطية وعن أبعاد الردود المرغوبة للتعامل مع ذلك التحدي.
وأقبل أيضاً أن القوى الفاعلة ليست بالضرورة ثابتة في طريقتها في التعامل مع الأبعاد السياسية والاجتماعية في ردها على التحدي الذي يواجه شعوب الجنوب، وبذلك من الممكن أن يتصور المرء إسلاماً سياسياً معادياً للإمبريالية، رغم أنه رجعي على الصعيد الاجتماعي. يقفز إلى الذهن فوراً هنا إيران وحماس في فلسطين، وحزب الله في لبنان، وبعض حركات المقاومة في العراق. سوف أناقش هذه الحالات الخاصة فيما بعد. وما أخالفه هو أن الإسلام السياسي ككل هو ببساطة تامة ليس معادياً للإمبريالية، وإنما يقف إجمالاً خلف القوى المهيمنة على الصعيد العالمي.
المبرر الثالث يلفت نظر اليسار إلى ضرورة محاربة كره الإسلام، وأي يسار جدير بهذا الاسم لا يستطيع أن يتجاهل مسألة الضواحي، أي معاملة الطبقات الشعبية التي من أصل مهاجر، في عواصم الرأسمالية المتطورة المعاصرة، وتحليل ذلك التحدي والردود التي صدرت عن مختلف الجماعات (الأحزاب المهتمة ذاتها، اليسار الانتخابي الأوروبي، اليسار الراديكالي) ليس من اهتمام هذا المقال. سأكتفي بشرح وجهة نظري المبدئية: الرد التقدمي لا يمكن أن يكون مبنياً على مأسسة الطائفية communitarianism، التي هي جوهرياً وبالضرورة مرتبطة باللامساواة، وفي النهاية تنبع من الثقافة العنصرية نتيجة إيديولوجية للثقافة السياسية الرجعية للولايات المتحدة، بدأت الطائفية (المنتصرة الآن في بريطانيا العظمى) في تسميم الحياة السياسية في القارة الأوروبية. كره الإسلام Islamophobia الذي تصعده بشكل كامل قطاعات كبيرة من النخبة السياسية وأجهزة الإعلام، هو جزء من إستراتيجية لإدارة التمايز الاجتماعي لصالح رأس المال، لأن ما يفترض أنه احترام للتمايز في الواقع ليس سوى وسيلة لتعميق الانقسامات داخل الطبقات الشعبية.
• مأسسة الطائفية communitarianism نظرية سياسية مبنية على “الهويات الثقافية الجماعية” كأساس لفهم الواقع الاجتماعي الديناميكي ـ الناشر.
• مسألة ما يسمى مشكلة الجوارات (الضواحي) هي خاصة، وخلطها مع مسألة الإمبريالية (أي الإدارة الإمبريالية للعلاقات بين المراكز الإمبريالية المهيمنة والأطراف المهيمن عليها)، كما يجري أحياناً، لا يساهم في شيء في التقدم في كل من المجالين المختلفين كلياً، ذلك الخلط هو جزء من الأدوات الرجعية، ويعزز كره الإسلام، الذي بدوره يجعل من الممكن إجازة كلا الأمرين: الهجوم ضد الطبقات الشعبية في المراكز الإمبريالية، والهجوم ضد شعوب الأطراف ذات العلاقة، وهذا الخلط وكره الإسلام بدورهما يقدمان خدمة ثمينة للإسلام السياسي الرجعي، بإعطائه مصداقية لخطابه المعادي للغرب. وأقول: إن المعركتين الإيديولوجيتين الرجعيتين، اللتين يصعدهما على الترتيب اليمين العنصري في الغرب والإسلام السياسي اللذين يدعمان بعضهما البعض، في الوقت الذي يدعمان فيه الممارسات الطائفية.
الحداثة والديمقراطية والعلمانية والإسلام
الصورة التي تقدمها المناطق العربية والإسلامية عن نفسها اليوم، هي تلك التي الدين (الإسلام)، هو في الواجهة لجميع المجالات في الحياة الاجتماعية والسياسية، لدرجة يبدو فيها أن من المستغرب تصور أن يكون الأمر مختلفاً. أغلبية المراقبين الأجانب (قادة سياسيين وإعلاميين) يستنتجون أن الحداثة، بل وربما الديمقراطية، يجب أن تتكيف مع الحضور القوي للإسلام، ومع الاستبعاد الواقعي للعلمانية. إما أن تكون هذه المصالحة ممكنة ويكون من الضروري دعمها أو لا تكون، ويكون التعامل مع هذه المنطقة من العالم كما هي. أنا لا أشترك مطلقاً بذلك، بما يسمى بالرؤية الواقعية. المستقبل ـ في الأفق البعيد للاشتراكية المعولمة ـ هو لشعوب هذه المنطقة مثله للشعوب الأخرى، الديمقراطية والعلمانية. المستقبل هو ممكن في هذه المناطق مثله في مناطق أخرى، ولكن لا شيء مضموناً وأكيداً في أي مكان.
الحداثة هي شرخ في تاريخ العالم، دخلت أوروبا خلال القرن السادس عشر. الحداثة تطرح أن الكائنات الإنسانية هي المسؤولة عن تاريخها، فردياً وجماعياً، وتقطع صلتها والحالة هذه مع الإيديولوجيات، التي كانت سائدة قبل الحداثة. الحداثة إذن تجعل الديمقراطية ممكنة، وتقتضي في نفس الوقت العلمانية، بمعنى فصل الديني عن السياسي. إن الربط المعقد بين الحداثة والديمقراطية والعلمانية، الذي صيغ في عصر التنوير، ونفذته الثورة الفرنسية، كانت تقدماته وتراجعاته هي التي صاغت منذئذ العالم المعاصر، غير أن الحداثة بذاتها ليست فقط ثورة ثقافية.
لقد اشتقت معناها فقط من خلال العلاقة الوثيقة، التي كانت لها بميلاد الرأسمالية وبنموها فيما بعد، وهذه العلاقة رسمت الحدود التاريخية للحداثة “القائمة واقعياً”. الصيغ الواقعية للحداثة والديمقراطية والعلمانية وجدت اليوم وجوبها ثم هي معتبرة منتجات للتاريخ الواقعي لنمو الرأسمالية. لقد أخذت شكلها من خلال الشروط الخاصة، التي يتم فيها التعبير عن سيطرة رأس المال ـ التوافقات التي تحدد مضامين الكتل المهيمنة (التي أسميها المجرى التاريخي للثقافات السياسية).
هذا التقديم المكثف لفهمي للمنهج المادي التاريخي وارد فقط لتحديد مكان مختلف الطرق في تركيب الحداثة الرأسمالية، والديمقراطية والعلمانية في إطارها النظري.
التنوير والثورة الفرنسية طرحاً نموذجياً للعلمانية الراديكالية. ملحد أو لا أدروي AGNOSTIC، جبري DEIST أو مؤمن (مسيحي في هذه الحالة)، الإنسان حرّ في الاختيار، والدولة لا تعرف شيئاً عن ذلك.
في القارة الأوروبية ـ وفي فرنسا ابتداء من عودة الملكية ـ التراجعات والتسويات التي جمعت سلطة البرجوازية مع سلطة الطبقات المسيطرة في الأنظمة ما قبل الحديثة، كانت الأساس للصيغ المخففة من العلمانية، التي فهمت على أنها تسامح، مع عدم نفي الدور الاجتماعي للكنائس من النظام السياسي. أما بالنسبة للولايات المتحدة، فقد نتج عن مسارها التاريخي الخاص تشكيل ثقافة سياسية رجعية بأساسها، العلمانية الحقيقية فيها غير معروفة عملياً. الدين معترف به هنا كفاعل اجتماعي والعلمانية مختلطة مع تعددية الديانات الرسمية (أي دين ـ حتى المذهب ـ هو رسمي).
ثمة رباط واضح بين درجة العلمانية الراديكالية القائمة ودرجة دعم تشكيل المجتمع وفقاً للموضوع المركزي للحداثة. اليسار، سواء كان راديكالياً أو حتى معتدلاً، الذي يؤمن بجدوى السياسة في توجيه التطور الاجتماعي في اتجاهات مختارة، يدافع بقوة عن مفاهيم العلمانية، واليمين المحافظ يطرح أن يتاح للأمور التطور على مسارها الخاص، سواء كانت المسألة تتعلق بالاقتصاد أو بالسياسة، أو بالمجتمع. وفيما يتعلق بالاقتصاد الاختيار لصالح “السوق” هو بداهة لصالح الرأسمال. وفي السياسة الديمقراطية الضعيفة الشدة أصبحت القاعدة، التوريث حل محل التبديل، والمجتمع في هذا الإطار، السياسة فيه لا تحتاج العلمانية ـ “الطوائف” تعوض عن الثغرات في الدولة. السوق والديمقراطية التمثيلية يصنعان تاريخاً ويجب أن يتاح لها القيام بذلك. ففي اللحظة الحالية من تراجع اليسار، هذه الصيغة من الفكر الاجتماعي سائدة على نطاق واسع، في صياغات تعزف السلم الموسيقي من لدى تورين حتى لدى نيغري، بل الثقافة السياسية الرجعية للولايات المتحدة تذهب بعيداً في شل مسؤولية الفعل السياسي. التأكيد المتكرر بأن الله يهدي الأمة “الأمريكية، والانتماء الواسع لهذا “الإيمان”، يقلص حتى مفهوم العلمانية إلى اللاشيء، والقول إن الله يصنع التاريخ هو في الواقع إتاحة للسوق كي تصنعه.
ومن وجهة النظر هذه، أين هم شعوب منطقة الشرق الأوسط ؟ إن صورة الملتحين الذين يركعون، ومجموعات النساء المحجبات، تعطي نتائج متسرعة لشدة الانتماء الديني لدى الأفراد. “الثقافيون” الغربيون الأصدقاء، الذين ينادون بالتنوع في الأديان، نادراً ما يكتشفون العمليات التي تقوم بها السلطات، كي تقدم الصورة التي تلائمها. هنالك حتماً من هم “مجنونون بالله”. هل هم نسبياً أكثر عدداً من الكاثوليك الإسبان الذين يقومون بمسيرات في الفصح ؟ أو من الحشود الواسعة التي تصغي إلى الإذاعات الإنجيلية في الولايات المتحدة ؟ …
على أية حال؛ المنطقة لم تعطِ دوماً هذه الصورة عن ذاتها، بصرف النظر عن الفروق بين بلد وبلد، فإن منطقة كبرى يمكن تحديدها بدءاً من مراكش وحتى أفغانستان، متضمنة جميع الشعوب العربية (باستثناء شعوب شبه الجزيرة العربية)، الأتراك والإيرانيون والأفغان، وشعوب جمهوريات آسيا الوسطى السوفييتية السابقة، إمكانات نمو العلمانية فيها هي أبعد من أن تكون مهملة. الوضع مختلف بين الشعوب المجاورة الأخرى، عرب شبه الجزيرة وباكستان.
في هذه المنطقة الأكبر وسمت التقاليد السياسية بقوة التيارات الراديكالية للحداثة: أفكار التنوير، الثورة الفرنسية، الثورة الروسية وشيوعية الأممية الثالثة، كل ذلك كان ماثلاً في أذهان كل فرد، وكان أهم بكثير من برلمانية وستمنستر، مثلاً إن هذه التيارات المهيمنة أوحت بأغلب نماذج التحول السياسي الذي قامت به الطبقات الحاكمة، التحول الذي يمكن وصفه في بعض جوانبه بصيغ للاستبداد المتنور.
كان ذلك حتماً هو الحالة في مصر محمد علي أو الخديوي إسماعيل. الكمالية في تركيا والتحديث في إيران كانا متشابهان. الشعبوية القومية في المراحل الأحدث من التاريخ تنتمي إلى نفس الأسرة من المشروعات السياسية الحداثية. أشكال النموذج عديدة (جبهة التحرير الوطني الجزائرية، البورقيبية التونسية، الناصرية المصرية، البعثية في سوريا والعراق)، ولكن كانت قيادة الحركة متشابهة. ظاهرياً التجارب المتطرفة ـ ما يسمى بالأنظمة الشيوعية في أفغانستان واليمن الجنوبي ـ كانا واقعياً غير مختلفين كثيراً. كل هذه الأنظمة أنجزت الكثير، ولهذا السبب كان لها دعم شعبي واسع، ولهذا؛ مع أنها ليست ديمقراطية حقيقية، فقد فتحت الطريق لتطور ممكن في هذا الاتجاه. في بعض الظروف، مثل تلك التي كانت في مصر من 1920 حتى 1950، جرت محاولة لتجربة ديمقراطية انتخابية، مدعومة من قيادة معتدلة معادية للإمبريالية (حزب الوفد)، ويعارضها السلطة الإمبريالية المسيطرة (بريطانيا العظمى) والحلفاء المحليون (الملكية). العلمانية التي طبقت بأشكالها المعتدلة، للعلم، لم تكن مرفوضة من الجمهور، بالعكس كان رجال الدين هم الذين كانوا معتبرين ظلاميين لدى الرأي العام، وأغلبهم كانوا كذلك.
التجارب الحداثية، من الاستبداد التنويري إلى الشعبوية القومية الراديكالية، لم تكن نتيجة الصدفة. الحركات القومية التي كانت مسيطرة في الطبقات الوسطى خلقتها، وبهذه الطريقة عبرت تلك الطبقات عن إرادتها في أن تُرى شريكاً ناضجا في العولمة، وهذه المشاريع التي يمكن وصفها بالبورجوازية الوطنية كانت حداثية، وتحمل العلمانية وتنطوي على كونها حاملاً للتطورات الديمقراطية، ولكن لأن تلك المشاريع كانت بالضبط تتعارض مع مصالح الإمبريالية المهيمنة، قامت هذه بمحاربتها من دون هوادة، وبشكل كامل، وجندت القوى الظلامية المنحدرة من أجل ذلك الهدف.
تاريخ القرن الماضي على يد البريطانيين والملكية لسد الطريق على الوفد الديمقراطي والعلماني، والعودة الجماعية من المنفى السعودي بعد وفاة عبد الناصر، المرتبة من قبل المخابرات المركزية الأمريكية C.I.A. والسادات، هي أيضاً معروفة جيداً. ونحن كلنا نعرف تاريخ طالبان التي شكلتها المخابرات المركزية في باكستان، لكي تحارب “الشيوعيين” الذين فتحوا المدارس لكل إنسان، للصبيان والبنات. ومعروف أيضاً جيداً أن الإسرائيليين دعموا حماس في البداية لإضعاف التيارات الديمقراطية والعلمانية في المقاومة الفلسطينية.
إن الإسلام السياسي كان يمكن أن يجد صعوبة أكبر بكثير في اجتياز حدود العربية السعودية وباكستان، لولا دعم الولايات المتحدة المستمر، القوي الحازم. المجتمع العربي السعودي لم يكن قد خرج من التقاليد عندما اكتشف البترول تحت ترابه، والتحالف بين الإمبريالية والطبقة الحاكمة التقليدية، الذي تم فوراً، أبرم بين الشريكين وأعطى حقاً جديداً بالحياة للإسلام السياسي الوهابي، ومن جهتهم نجح البريطانيون في شق الوحدة الهندية بإقناع القادة المسلمين بإقامة دولتهم الخاصة، فوقع هؤلاء في فخ الإسلام السياسي في ولادته الأولى، ويجب التنويه أن النظرية التي منحت الشرعية لذلك ـ المنسوبة إلى المودودي ـ كانت قد صيغت بالكامل على يد المستشرقين الإنكليز في خدمة جلالته.
• أصل القوة الحالية للإسلام السياسي في إيران لا يبدو بنفس الصلة التاريخية، مع التآمر الإمبريالي لأسباب تناقش في القسم التالي ـ الناشر.
وبذلك من السهل أن يفهم المرء المبادرة التي قامت بها الولايات المتحدة لشق الجبهة المتحدة من الدول الإفريقية والآسيوية، التي أقيمت في باندونغ عام 1955، بإنشاء المؤتمر الإسلامي الذي دعت إليه مباشرة منذ العام 1957 العربية السعودية وباكستان، والإسلام السياسي دخل إلى المنطقة بهذه الطريقة.
وأقل ما يمكن استنتاجه من الملاحظات التي قدمناها، هو أن الإسلام السياسي ليس نتيجة عفوية لتعلق الشعوب ذات العلاقة بالقناعات الدينية الأصلية. إن الإسلام السياسي هو من فعل الإمبريالية الكامل مدعوماً بالطبع من قوى الرجعية الظلامية ومن الطبقات الكومبرادورية التابعة لها، وكون هذا الواقع للأمور هو أيضاً من مسؤولية القوى اليسارية، التي لا ترى ولا تعرف كيف تتعامل مع هذا التحدي، فيبقى لا جدال فيه.
المسائل المتعلقة ببلدان خط الجبهة (أفغانستان، العراق، فلسطين، إيران)
مشروع الولايات المتحدة، المدعوم لدرجات مختلفة من حلفائها الأتباع في أوروبا واليابان، هو أن تقيم سيطرة عسكرية فوق كامل الكوكب، وبهذا الهدف في الذهن اختير الشرق الأوسط منطقة ل”الضربة” الأولى لأربعة أسباب: 1 ـ إنه يضم أغزر الموارد البترولية في العالم وسيطرة الولايات المتحدة العسكرية المباشرة عليه تمنح واشنطن موقعاً متميزاً، يجعل حلفائها ـ أوروبا واليابان ـ وربما المنافسين (الصين) في وضع غير مريح بسبب الارتباط بحاجاتها من الطاقة. 2 ـ ويقع على تقاطع الطرق في العالم القديم ويجعل من الأسهل نصب تهديد عسكري دائم للصين وللهند ولروسيا. 3 ـ المنطقة تعاني فترة ضعف وتشوش، تسمح للمعتدي أن يكون واثقاً من النصر السهل، على الأقل في المرحلة الأولى. 4 ـ وجود إسرائيل في المنطقة، الحليف غير المشروط لواشنطن. هذا العدوان وضع البلدان والأمم الواقعة على خط الجبهة (أفغانستان، العراق، فلسطين، إيران) في وضع خاص بأن تكون مدمرة (الثلاثة الأولى) أو مهددة (إيران).
أفغانستان
أفغانستان شهدت أفضل فترة في تاريخها الحديث خلال ما يسمى بالجمهورية الشيوعية، كان ذلك نظام استبداد حداثي وتنويري، فتح النظام التربوي للأطفال من الجنسين. كان معادياً للظلامية، ولهذا السبب كان له دعم حاسم في المجتمع. الإصلاح الزراعي الذي قام به كان بأغلبه مجموعة من الإجراءات الهادفة لتقليص سلطات القادة القبليين وطغيانهم، ودعم الأغلبية الفلاحية ـ على الأقل ضمناً ـ كان من شأنه أن يضمن النجاح المحتمل لهذه البداية الجيدة للتغيير، والدعاية التي نشرها الإعلام الغربي وكذلك الإسلام السياسي، والتي تصور هذه التجربة الشيوعية على أنها إلحادية وشمولية، رفضها الشعب الأفغاني. الواقع، النظام لم يكن ضعيف الشعبية، وكان يشبه نظام أتاتورك في أيامه.
وواقع أن قادة هذه التجربة في كلا التكتلين الرئيسيين (خلق وبارشام)، كانوا يصفون أنفسهم بالشيوعيين ليس مستغرباً. إن نموذج التقدم الذي أنجزته شعوب آسيا الوسطى المجاورة (رغم كل ما قيل في الموضوع، ورغم الممارسة الأوتوقراطية للنظام) بالمقارنة مع الكوارث الاجتماعية الجارية عبر الإدارة الإمبريالية البريطانية في بلدان مجاورة أخرى (ومنها الهند وباكستان)، والتي كان لها هنا وفي بلدان عديدة أخرى في المنطقة تأثير في تشجيع الوطنيين على تقويم مدى العائق، الذي تشكله الإمبريالية لأي محاولة للتحديث، والدعوة من جانب أحد التكتلين للسوفييت، كي يتدخلوا ليتخلصوا من الآخرين كان لها حتماً تأثير سلبي، وأحبطت الإمكانات من أجل مشروع حداثي قومي شعبوي.
الولايات المتحدة وحلفاؤها في الثلاثي كانوا عموماً خصوماً ألداء للحداثيين الأفغان، شيوعيين أم لا، هم الذين جندوا القوى الظلامية من الإسلام السياسي، نموذج باكستان (طالبان)، وأمراء الحرب (قادة القبائل الذين أخمدهم ما يسمى بالنظام الشيوعي)، والذين دربوهم وسلحوهم. حتى بعد الانسحاب السوفييتي برهنت حكومة نجيب الله عن قدرة على المقاومة، ربما كانت ستنتصر لولا الهجوم الباكستاني الذي أتى ليدعم طالبان، ثم هجوم قوى أمراء الحرب المعاد تشكيلها التي زادت الفوضى.
لقد سحقت أفغانستان بتدخل الولايات المتحدة وحلفائها والعملاء الإسلاميين بوجه خاص. أفغانستان لا يمكن إعادة بنائها في ظل سلطتهم المتسترة خلف مهرج لا جذور له في البلاد، أسقط بالمظلة من تكساس ترانسناشنال، التي كان موظفاً فيها. “الديمقراطية المفترضة” التي باسمها واشنطن والناتو والأمم المتحدة دعوا إلى النجدة، المطروحة لتبرير استمرار وجودهم (احتلالهم في الواقع) كانت كذبة منذ البداية، وأصبحت تهريجاً كبيراً.
ثمة حل وحيد للمشكلة الأفغانية، جميع القوى الأجنبية يجب أن تغادر البلاد، وكل القوى يجب أن تجبر على وقف وإنهاء تسليح عملائها، ولمن يعبرون بحسن نية عن خوفهم عن أن الشعب الأفغاني سوف يعاني دكتاتورية طالبان (أو أمراء الحرب)، أرد بأن الوجود الأجنبي كان حتى الآن وسيبقى دعماً لتلك الدكتاتورية! كان الشعب الأفغاني يتحرك في اتجاه مغاير ـ ربما أفضل ما يمكن ـ في وقت كان فيه الغرب مجبرا على أن يكون أقل اهتماماً بشؤونه. لقد فضل الغرب المتمدن دوماً الاستبداد الظلامي، الأقل خطراً بكثير على مصالحه، على استبداد “الشيوعيين” التنويري.
العراق
دبلوماسية الولايات المتحدة المسلحة، كان لديها دوماً هدف تدمير حرفي للعراق قبل الذرائع، التي أعطيت بزمن كبير لفعل ذلك في مناسبتين: غزو الكويت في 1990، ثم بعد 11 أيلول 2001 ـ المستغل لهذا الغرض لدى بوش مع نفاق وأكاذيب من نموذج غربلز (“إذا قلت كذبة كبيرة بشكل كافٍ وبقيت تكررها، ينتهي الشعب عملياً بأن يصدقها”). السبب لهذا الهدف هو بسيط ولا علاقة له بالخطاب، الذي يدعو إلى تحرير الشعب العراقي من دكتاتورية صدام حسين الدموية (والوصف حقيقي بشكل كافٍ). إن العراق يمتلك جزءاً كبيراً من أفضل الموارد البترولية في الكوكب.
وما هو أكثر من ذلك، نجح العراق في تدريب كادرات علمية وتقنية، كانت قادرة عبر كتلتها الحدية، أن تدعم مشروعاً قومياً غنياً ومتماسكاً، وهذا الخطر كان يجب إزالته بحرب وقائية، أعطت الولايات المتحدة لنفسها الحق بشنها متى وأنى تقرر، دون أي احترام للقانون الدولي.
وغير هذه الملاحظة الواضحة يجب فحص عدة مسائل جدية: 1 ـ كيف يمكن أن يبدو مخطط واشنطن ـ حتى لفترة تاريخية قصيرة ـ فاقع النجاح وسهلاً ؟ 2 ـ أي وضع جديد نشأ ويواجه الأمة العراقية اليوم ؟
3 ـ أي ردود يواجه بها مختلف السكان العراقيين التحدي ؟ 4 ـ أي حلول يمكن أن تطرحها القوى الديمقراطية والتقدمية العراقية والعربية والدولية ؟
إن فشل صدام حسين كان متوقعاً، والشعب الذي واجهه عدو ميزته الرئيسية تكمن في قدرته على فعل الإبادة دون عقاب بالقصف الجوي (واستخدام الأسلحة النووية يأتي)، لديه رد فعال ممكن وحيد: القيام بالمقاومة على أرضه المغزوة. نظام صدام كان مندفعاً في حذف كل وسيلة دفاع في يد شعبه عبر التدمير الكامل لأي تنظيم ولأي حزب سياسي (بدءاً من الحزب الشيوعي) صنع تاريخ العراق الحديث، ومن الجملة البعث نفسه، الذي كان أحد الفاعلين الأساسيين في ذلك التاريخ. ليس مستغرباً ضمن هذه الشروط أن يسمح الشعب العراقي بغزو بلده دون معركة، بل بعض التصرفات (مثل المشاركة في الانتخابات التي نظمها الغازي، أو انفجار القتال بين الأخوة، بين الأكراد والعرب الشيعة) تبدو إشارات على الرضى المحتمل بالهزيمة (الذي اعتمدت عليه واشنطن في حساباتها)، ولكن ما هو جدير بالتنويه هو أن المقاومة على الأرض تزداد قوة كل يوم (رغم كل الضعف الجدي، الذي ظهر لدى مختلف قوى المقاومة، التي جعلت من المستحيل إقامة نظام أذناب قادر على الحفاظ على مظاهر نظام؛ بشكل قد برهن على فشل مشروع واشنطن.
غير أن وضعاً جديداً نشأ مع الاحتلال العسكري الأجنبي. الأمة العراقية هي حقيقية في خطر. واشنطن غير قادرة على الاستمرار في السيطرة على البلاد (بشكل تنهب فيه المواد البترولية، مما يؤلف الهدف الأول)، من خلال حكومة وطنية شكلية. الطريقة الوحيدة لتتابع مشروعها هي إذن تمزيق البلد. تقسيم البلد إلى ثلاث دول على الأقل (كردية وعربية سنية وعربية شيعية) كان ربما منذ البداية هدف واشنطن، بالتحالف مع إسرائيل (الأرشيف سوف يكشف حقيقة ذلك في المستقبل).
الآن “الحرب الأهلية” هي الورقة التي تلعبها واشنطن لإعطاء الشرعية لاحتلالها. من الواضح أن الاحتلال الدائم كان ـ ويبقى ـ الهدف: فهو الوسيلة الوحيدة التي تستطيع بها واشنطن ضمان السيطرة على الموارد البترولية. حتما لايمكن إعطاء أي مصداقية لتصريحات واشنطن عن النيه في “سنرحل عن البلاد حالما يعاد الأمن”. يجب أن يتذكر المرء أن البريطانيين لم يقولوا يوماً عن احتلالهم مصر منذ 1882، سوى أنه مؤقت (واستمر حتى 1956) وأثناء ذلك الولايات المتحدة حتما تدمر ،يوماً بعد يوم، البلاد، مدارسها، مصانعها، إمكاناتها العلمية، مستخدمة كل الوسائل ومنها الجرمية.
الرد الذي يصدر عن الشعب العراقي على التحدي ـ كما يبدو على الأقل ـ ليس على مستوى مواجهة جدية الوضع … هذا أقل ما يمكن أن يقال. ما هي أسباب ذلك ؟ الإعلام الغربي المسيطر يكرر لدرجة القرف أن العراق هو بلد مصطنع، وأن السيطرة الاضطهادية لنظام صدام حسين “السني” على الشيعة والأكراد هو السبب في الحرب الأهلية التي لا مفر منها (والتي يمكن ردعها، ربما فقط باستمرار الاحتلال الأجنبي). المقاومة محصورة إذن بعدد قليل من الإسلاميين العنيدين الموالين لصدام في المثلث السني. لا شك أن من الصعب أن يخرز المرء مغالطات عديدة بهذا المقدار مع بعضها في خيط.
عقب الحرب العالمية الأولى لقي البريطانيون صعوبة كبرى في هزم الشعب العراقي، وبالانسجام الكامل مع تقاليدهم الإمبراطورية استورد البريطانيون ملكية وأنشأوا طبقة من الملاكين الكبار لدعم سلطتهم، وإلى جانب ذلك أعطوا وضعاً مميزاً للسنة، ولكن رغم جهودهم الكلية فشل البريطانيون. الحزب الشيوعي وحزب البعث كانا القوتين السياسيتين المنظمتين الرئيسيتين اللتين هزمتا سلطة الملكية “السنية”، التي كان يكرهها الجميع، السنة والشيعة والأكراد. والتنافس العنيف بين تلكما القوتين، الذي ملأ الفترة بين 1958 و 1963 انتهى بانتصار حزب البعث، الذي رحبت به الدول الغربية كنجدة. المشروع الشيوعي كان يحمل في طياته إمكانية التطور الديمقراطي؛ ولم يكن الأمر كذلك لدى البعث. الأخير كان قومياً وعربياً pan-arabe في المبدأ، وكان معجباً بالنموذج البروسي في بناء الوحدة الألمانية، ويجند أعضاءه من البورجوازية الصغيرة العلمانية الحداثية، المعادية لتعبيرات الدين الظلامية. وفي السلطة تطور البعث بشكل متوقع إلى دكتاتورية كانت فقط نصف معادية للإمبريالية، بمعنى أنها تعتمد على الأوضاع الدولية والظروف، والصفقة يمكن أن تقبل لدى الشريكين (السلطة البعثية في العراق والأمبريالية الولايات المتحدة المسيطرة في المنطقة).
الصفقة شجعت جنون العظمة لدى القائد، الذي تصور أن واشنطن سوف تقبل بأن تجعله الحليف الرئيسي في المنطقة، ودعم واشنطن لبغداد (البرهان على ذلك تزويده بالأسلحة الكيميائية) في الحرب الجرمية ضد إيران منذ 1980 إلى 1989، بدا وكأنه دليل على صدق تلك الحسابات. صدام لم يتصور يوماً خداع واشنطن، وأن تحديث العراق غير مقبول لدى الإمبريالية، وأن القرار بتدمير البلد قد اتخذ، ووقع صدام في الفخ المفتوح عندما أعطى له الضوء الأخضر لضم الكويت (التي كانت واقعياً أيام العثمانيين جزءاً من الولاية التي تؤلف العراق، وفصلها الإمبرياليون البريطانيون لجعلها إحدى مستعمراتها البترولية). العراق خضع بعدئذ لعشر سنوات حصار هادفة إلى استنزاف البلاد حتى آخر نقطة لتسهيل غزو القوات المسلحة الأمريكية الزاهر للفراغ الناتج.
الأنظمة البعثية المتتالية، ومن الجملة الأخيرة في مرحلة انحداره تحت قيادة صدام، يمكن أن تتهم بكل شيء، ما عدا كونها حركت الفتنة بين السنة والشيعة. مَنْ إذن المسؤول عن الاصطدامات الدموية بين الطائفتين ؟ يوماً ما سوف نعرف حتماً، كيف أن المخابرات المركزية الأمريكية (والموساد دون شك) نظمت العديد من تلك المجازر، لكن من دون ذلك، صحيح أن الفراغ السياسي الذي خلفه نظام صدام، والمثال الذي قدمه عن الأساليب الانتهازية اللا مبدئية قد شجعت الطامحين بعده من كل نوع إلى السلطة، كي يتبعوا نفس الطريق، المحمي غالباً من المحتل، بل ربما أحياناً كانوا من السذاجة ليعتقدوا أن باستطاعتهم أن يكونوا في خدمة سلطة الاحتلال. الطامحون المذكورون. إن قادة دينيين (شيعة أو سنة) يفترض أنهم “وجهاء” قبليون، أو رجال أعمال فاسدون إلى درجة كبيرة، صدرتهم الولايات المتحدة، وليس لهم أي صلة بالبلاد. حتى أولئك القادة الدينيون، الذين يحترمهم المؤمنون لم يكن لهم نفوذ سياسي مقبول لدى الشعب العراقي، لولا الفراغ الذي خلفه صدام لم يكن أحد يعرف أسماءهم. هل ستكون لدى القوى السياسية الأخرى القومية وذات الشعبية الحقيقية، بل وربما ديمقراطية، وسيلة لإعادة بناء ذاتها، وهي تواجه العالم السياسي الجديد الذي خلقته إمبريالية العولمة الليبرالية ؟
كان ثمة وقت كان فيه الحزب الشيوعي العراقي البؤرة من أجل تنظيم أفضل ما يمكن أن ينتجه الشعب العراقي. كان الحزب الشيوعي موجوداً في كل زاوية من البلاد، ويسيطر على عالم المثقفين، غالباً من أصول شيعية (أنوه بالمناسبة أن الشيعة أنتجوا بالدرجة الأولى ثوريين أو رجال دين، ونادراً ما أنتجوا بيروقراطيين أو كومبرادور !).
الحزب الشيوعي كان ذا شعبية حقيقية ومعادياً للإمبريالية، ميالاً قليلاً إلى الديماغوجية، وينطوي على الديمقراطية. وبعد مجزرة الآلاف من خيرة مناضليه، وانهيار الاتحاد السوفييتي (الذي لم يكن الحزب الشيوعي العراقي مستعداً له)، وتصرف أولئك المثقفين الذين كانوا يقبلون بأن يرجعوا من المنفى في معسكر التابعين للقوات المسلحة الأمريكية، هل مقدر الآن على الحزب الشيوعي العراقي أن يغيب بشكل دائم عن التاريخ ؟ مع الأسف هذا ممكن جداً، ولكن ليس حتمياً، وأبعد من أن يكون كذلك.
المسألة الكردية حقيقية في العراق، كما في إيران وتركيا، ولكن في هذا الموضوع أيضاً يجب أن يتذكر المرء أن الدول الغربية مارست دوماً بنفاق كبير معيارين، إن قمع المطاليب الكردية لم يصل أبداً في العراق وإيران مستوى العنف المعنوي والعسكري والبوليسي، الذي قامت به أنقرة, لا إيران ولا العراق لم يذهبا بعيداً لدرجة إنكار وجود الأكراد، ومع ذلك يجب أن تسامح تركيا على كل شيء كعضو في حلف الأطلسي، منظمة للأمم الديمقراطية، كما يقول لنا الإعلام. وبين الديمقراطيين البارزين الذين أعلنهم الغرب برتغال سالازار، إحدى الأعضاء المؤسسين للأطلسي، والذين ليسوا أقل حماسة للديمقراطية هم الكولونيلات اليونانيين والجنرالات الأتراك.
في كل مرة؛ الجبهات الشعبية العراقية، التي تشكلت حول الحزب الشيوعي والبعث، في الفترات الجيدة من تاريخها المضطرب، إذا ما مارست السلطة السياسية، فإنها كانت تجد حيزاً من الاتفاق مع الأحزاب الكردية الرئيسية، وهذه كانت دوماً حليفة لها.
تطرف صدام المعادي للشيعة وللأكراد كان حتماً حقيقياً: مثلاً قصف جيش صدام لمنطقة البصرة بعد الفشل في الكويت في عام 1990، واستخدام الغاز ضد الأكراد. ذلك التطرف أتى رداً على مناورات دبلوماسية واشنطن العسكرية، التي جندت أجراء المشعوذين الشيعة والأكراد. لكن عدا ذلك يبقى ليس أقل تطرفاً جرمياً وحماقة، ما دام نجاح واشنطن في نداءاتها كان محدوداً جداً، ولكن هل يمكن انتظار أي شيء آخر من دكتاتوريين مثل صدام.
قوة المقاومة للاحتلال الأجنبي، غير المنتظرة في ظل تلك الظروف تبدو خارقة، ليس الأمر كذلك ما دام الواقع الأساسي هو أن الشعب العراقي إجمالاً (عرباً وأكراداً وسنة وشيعة) يكرهون المحتلين، ويعرفون جرائمهم اليومية (الاغتيالات، القصف، المجازر، التعذيب). بمعرفة ذلك، فإن جبهة موحدة للمقاومة القومية (سمها ما شئت) بل يمكن تخيلها تعلن عن نفسها كجبهة، رافعة الأسماء وقوائم المنظمات والأحزاب، التي تتألف منها، وبرنامجها المشترك. لكن ليس ذلك هو الحال حتى الآن، ويعود إلى جميع الأسباب الموصوفة أعلاه، ومن الجملة تدمير النسيج الاجتماعي والسياسي الناتج عن دكتاتورية صدام والاحتلال، وبصرف النظر عن الأسباب، هذا الضعف يؤلف عائقاً، ويجعل من الأسهل تقسيم السكان، وتشجيع الانتهازيين، حتى لو جعلوا عملاء، وتشويش أهداف التحرير.
من ينجح في تجاوز ذلك العائق ؟ الشيوعيون المفروض أن يكونوا أهلاً لذلك. الآن المناضلون الموجودون على الأرض يفصلون أنفسهم عن قادة الحزب الشيوعي (المعروفين وحدهم في الإعلام المسيطر) الذين، مشوشين ومرتبكين، يحاولون أن يعطوا شكل الشرعية لتحالفهم مع الحكومة العميلة، بل يزعمون أنهم يضيفون بهذا التحالف فعالية للمقاومة المسلحة، ولكن في ظل الظروف القائمة يمكن أن تقوم قوى سياسية أخرى بمبادرات حاسمة في منحى تأليف تلك الجبهة.
تبقى الحالة التي فيها مقاومة الشعب العراقي، رغم ضعفها قد أحبطت (سياسياً، إن لم يكن عسكرياً) مشروع واشنطن. وهذا بالضبط ما يزعج الأطلسيين، الحلفاء المخلصين للولايات المتحدة في الإتحاد الأوربي. إنهم يخافون اليوم فشل الولايات المتحدة، لأن هذا سوف يزيد قدرة شعوب الجنوب على إجبار رأسمال الثلاثي الإمبريالي، الدولي المعولم، على احترام أمم وشعوب آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.
المقاومة العراقية قدمت اقتراحات تجعل من الممكن التخلص من المأزق، وتساعد الولايات المتحدة على الانسحاب من الفخ. إنها تقترح: 1 ـ تشكيل سلطة إدارية دولية تؤلف بمساعدة مجلس الأمن. 2 ـ الإنهاء المباشر لأعمال المقاومة ولتدخلات قوى الاحتلال العسكرية والبوليسية. 3 ـ رحيل كل السلطات العسكرية والمدنية خلال ستة أشهر. وتفاصيل هذه المقترحات نشرت في المجلة العربية المحترمة، المستقبل العربي (كانون الثاني 2006) التي تصدر في بيروت.
والصمت المطبق الذي عارض به الإعلام الأوروبي بث تلك الرسالة هو دليل على تضامن الشركاء الإمبرياليين. القوى الأوروبية التقدمية والديمقراطية عليها واجب هو أن تفصل نفسها عن سياسة الثلاثي الإمبريالي هذه، وأن تدعم اقتراحات المقاومة العراقية، وترك الشعب العراقي يواجه خصمه وحده هو خيار غير مقبول، فهو يعزز الفكرة أن لا شيء يمكن توقعه من الغرب وشعوبه، ويشجع بالتالي التطرف غير المقبول، بل الإجرامي، في نشاطات بعض حركات المقاومة.
بمقدار ما ترحل قوات الاحتلال الأجنبية بسرعة عن البلاد، وبمقدار ما يكون دعم القوى الديمقراطية في العالم وفي أوروبا قوياً للشعب العراقي، تزداد الإمكانات بمستقبل أفضل لهذا الشعب الشهيد، وبمقدار ما يدوم الاحتلال تكون عقابيل نهايته الحتمية مظلمة.
فلسطين
الشعب الفلسطيني كان منذ إعلان بلفور خلال الحرب العالمية الأولى ضحية مشروع استعماري من سكان أجانب، احتفظوا له بمصير “الهنود الحمر”، سواء اعترفوا به أو ادعوا تجاهله، وهذا المشروع كان له دوماً دعم غير مشروط من قبل السلطة الإمبريالية في المنطقة (أمس بريطانيا العظمى واليوم الولايات المتحدة)، لأن الدولة الأجنبية في المنطقة، التي أنشأها المشروع، لا يمكن إلا أن تكون بدورها حليفاً غير مشروط في التدخلات المطلوبة لإجبار الشرق الأوسط العربي على الخضوع لهيمنة الرأسمالية الإمبريالية.
وهذا أمر بديهي لدى جميع شعوب أفريقيا وآسيا، وبالتالي هي بشكل عفوي في القارتين ملتقية على تأكيد حقوق الشعب الفلسطيني والدفاع عنها. أما في أوروبا فـ “المسألة الفلسطينية” تسبب الانقسام، الذي سببه الالتباس الذي تتركه الإيديولوجية الصهيونية ذات الصدى الإيجابي عموماً.
اليوم أكثر من أي وقت مضى ألغيت حقوق الشعب الفلسطيني في ظرف قيام الولايات المتحدة بتنفيذ “مشروع الشرق الأوسط الكبير”. ونفس الشيء حينما قبلت منظمة التحرير الفلسطينية خطتي أوسلو ومدريد وخريطة الطريق التي وضعتها واشنطن. إسرائيل هي التي تراجعت علناً عن اتفاقها، بل نفذت أيضا خطة توسعية أكثر طموحا. منظمة التحرير الفلسطينية فجرت نفسها بذلك، فالرأي العام يستطيع بحق لومها لأنها اعتقدت بسذاجة بصدق أعدائها. الدعم الذي قدمته سلطات الاحتلال في البداية على الأقل لأعدائها الإسلاميين، وانتشار الممارسات الفاسدة في الإدارة الفلسطينية (التي صمت عنها صندوق المانحين ـ البنك الدولي، أوروبا والمنظمات غير الحكومية ـ إن لم يكونوا شركاء)، كان من شأن ذلك أن يؤدي إلى انتصار حماس انتخابياً (كان ذلك متوقعاً) وهذا أصبح ذريعة إضافية، طرحت مباشرة لتبرير الانحياز غير المشروط للسياسات الإسرائيلية، ولا يهم أياً كانت.
المشروع الصهيوني الاستعماري كان دوماً خطراً، غير فلسطين، على الشعوب المجاورة. طموحاتها لضم سيناء المصرية، والضم الفعلي للجولان السورية هي دليل على ذلك. وفي مشروع الشرق الأوسط الكبير، ثمة مكان خاص محجوز لإسرائيل، أولا لاحتكارها للتجهيز العسكري النووي، ولدورها كـ “شريك لا غنى عنه” (بالذريعة الكاذبة إن إسرائيل تملك خبرة تكنولوجية، ليست في استطاعة الشعب العربي، أي عنصرية هذه ضرورية !).
لا نية هنا لتقديم تحليلات للتداخلات المعقدة بين معارك المقاومة ضد التوسع الاستعماري الصهيوني والصراعات السياسية والخيارات في لبنان وسوريا. الأنظمة البعثية في سوريا قاومت بطريقتها مطاليب السلطات الإمبريالية وإسرائيل، وكون هذه المقاومة استخدمت لتبرير الطموحات الأكثر قابلية للجدل (السيطرة على لبنان) هو حتماً لا جدال فيه. عدا ذلك، اختارت سوريا بعناية الحلفاء الأقل خطراً في لبنان. المعروف جيداً أن الحزب الشيوعي اللبناني نظم مقاومة للاعتداءات الإسرائيلية على جنوب لبنان (ومن الجملة حرف المياه). السلطات السورية واللبنانية والإيرانية تعاونت بشكل وثيق في تدمير تلك القاعدة الخطرة واستبدالها بحزب الله، واغتيال رفيق الحريري (وهي قضية ما تزال غير محلولة) أعطت بداهة القوى الإمبريالية (الولايات المتحدة ومن خلفها فرنسا) الفرصة للتدخل مع هدفين في الذهن: 1 ـ إجبار دمشق على الانحياز بشكل دائم مع الدول العربية العميلة (مصر والعربية السعودية) ـ أو إذا ما فشل ذلك، إزالة بقايا سلطة البعث المتآكلة. 2 ـ تدمير ما يبقى من قدرة على مقاومة الاعتداءات الإسرائيلية (بالمطالبة بنزع سلاح حزب الله)، ويرد الخطاب حول الديمقراطية ضمن هذا الإطار، إذا كان مفيداً.
اليوم بقبول تنفيذ المشروع الإسرائيلي السائر قدماً، يتم التصديق على إلغاء الحق الأول للشعوب، حق الوجود، هذا يؤلف جريمة عظمى ضد الإنسانية، واتهام الذين يرفضون هذه الجريمة بـ “معاداة السامية” هو مجرد وسيلة للابتزاز الرهيب.
إيــران
لا نية لنا هنا في مناقشة التحليلات التي تطرحها الثورة الإسلامية، هل كانت كما طُرح بين مؤيدي الإسلام السياسي، أو أيضاً لدى المراقبين الأجانب، إعلانا ونقطة انطلاق لتغيير من شأنه أن يشمل كامل المنطقة، وربما كامل العالم الإسلامي، الذي أعيدت تسميته للمناسبة بالأمة (التي لم تكن موجودة يوماً)، أم أنها حدث منفرد بخاصة لأنه كان تركيباً وحيداً من التفسيرات للشيعة الإسلامية، وتعبيراً عن القومية الإيرانية.
من المنظور الذي يهمنا هنا، أود فقط أن أضع ملاحظتين: الأولى هي أن نظام الإسلام السياسي في إيران ليس بطبيعته غير متلائم مع انضمام البلد إلى نظام العولمة الرأسمالي، لأن النظام قائم على المبادئ الليبرالية في إدارة الاقتصاد، والثانية هي أن الأمة الإيرانية كأمة هي “أمة قوية”، أمة مكوناتها الأساسية، إذا لم تكن كل مكوناتها، في الطبقات الشعبية كما في الطبقات الحاكمة، لا تقبل انضمام بلدها إلى نظام العولمة في وضع متدن، ويوجد حتماً تناقض بين البعدين للواقع الإيراني. البعد الثاني هو المهم في توجهات سياسة طهران الخارجية، التي تحمل الدليل على الإرادة في مقاومة الإملاءات الخارجية.
إنها القومية الإيرانية ـ القوية، والتي في رأيي كانت تاريخياً إجمالاً إيجابية ـ التي تفسر نجاح تحديث الإمكانات العلمية والصناعية والتكنولوجيا والعسكرية، الذي حققه نظام الشاه، والنظام الخميني الذي خلفه. إيران هي إحدى دول الجنوب القليلة (مع الصين والهند وكوريا والبرازيل، وربما دول قليلة أخرى، ولكن ليست عديدة!)، التي لديها مشروع بورجوازي قومي، سواء كان ممكناً تحقيق ذلك المشروع على المدى البعيد أم لا (ورأيي هو لا)، فالأمر ليس نقطة اهتماماتنا. اليوم هذا المشروع موجود وقائم.
وبالضبط لأن إيران تؤلف كتلة حرجة قادرة على القيام بمحاولة لتأكيد ذاتها كشريك محترم، فإن الولايات المتحدة قررت تدمير البلد بحرب وقائية جديدة، وكما هو معروف جيداً، الصراع يجري حول الإمكانات النووية، التي تطورها إيران. لماذا لا يكون لهذا البلد الحق مثل بلدان أخرى في متابعة تلك الإمكانات، حتى أو من الجملة، تصبح دولة نووية عسكرية؟ بأي حق تستطيع الدول الإمبريالية وصيغتها الإسرائيلية أن تتبجح بضمان الاحتكار لنفسها للأسلحة ذات التدمير الشامل، هل يستطيع أحد أن يعطي أي مصداقية للخطاب الذي يقول بأن الأمم “الديمقراطية” لن تستخدم أبداً مثل تلك الأسلحة مثل “دول الشر”، بينما يعرف الجميع أن الأمم الديمقراطية المعنية مسؤولة عن أكبر أعمال الإبادة في أيامنا المعاصرة، ومنها الإبادة التي مورست ضد اليهود، وأن الولايات المتحدة قد استخدمت السلاح النووي، وما تزال اليوم ترفض الحظر العام والمطلق على استخدامه.
خـاتمـــــة
اليوم الصراعات السياسية في المنطقة تجد ثلاث مجموعات قوى تواجه بعضها البعض، تلك التي تعلن ماضيها القومي (ولكنها في الحقيقة ليست أكثر من ورثة فاسدين وخربين لبيروقراطيات الفترة القومية ـ الشعبوية، وتلك التي تعلن الإسلام السياسي، وأولئك الذين يحاولون أن ينظموا مطاليب “ديمقراطية” متفقة مع الليبرالية الاقتصادية، وتثبيت السلطة بأي من هذه القوى ليس مقبولاً ليسار يركز انتباهه على مصالح الطبقات الشعبية. الواقع أن مصالح الطبقات الكومبرادورية المتفرعة عن النظام الإمبريالي الحالي تعبر عنها الاتجاهات الثلاث. الدبلوماسية الأمريكية تبقي الحدائد الثلاثة في النار، لأنها تركز على استخدام الصراعات فيما بينها، من أجل كامل الاستفادة، وبالنسبة لليسار الذي يحاول أن يتورط في تلك الصراعات فقط من خلال التحالفات مع واحد أو آخر من الاتجاهات (مفضلو الأنظمة القائمة لتجنب الأسوأ، أي الإسلام السياسي، أو ساعياً للتحالف مع الأخير للتخلص من الأنظمة)، فإنه محكوم بالفشل. اليسار يجب أن يؤكد نفسه بخوض المعارك في المناطق التي يجد فيها مكانه الطبيعي، الدفاع عن المصالح الاجتماعية والاقتصادية للطبقات الشعبية، وعن الديمقراطية، ولتأكيد السيادة الوطنية، وكل ذلك مترابط مع بعضه بشكل لا ينفصم.
• التحالفات التكتيكية المنبثقة عن أوضاع ملموسة هي مسألة أخرى، مثلاً العمل المشترك للحزب الشيوعي اللبناني مع حزب الله في مقاومة الغزو الإسرائيلي للبنان في صيف 2006 ـ الناشر.
منطقة الشرق الأوسط الكبير اليوم هي مركزية في الصراع بين القائد الإمبريالي وشعوب العالم كله، وإحباط بناء مشروع واشنطن هو شرط لتوفير إمكانية النجاح للتقدم في أي منطقة في العالم، والفشل في ذلك يعني أن كل التقدم يبقى هشاً إلى حد كبير، هذا لا يعني أن أهمية المعارك التي تشن في مناطق أخرى من العالم، في أوروبا أو أمريكا اللاتينية، أو أي مكان آخر يجب التقليل منها. إنه يعني فقط أنها يجب أن تكون جزءاً من الأفق الشامل الذي يساهم في هزم واشنطن في المنطقة التي اختارتها من أجل ضربتها الأولى في هذا القرن.

, ,

أضف تعليق

الإسلام السياسي، الوجه الآخر للرأسمالية المتوحشة

سمير أمين 

يقع في خطأ كبير من يعتقد أن ظهور حركات سياسية مرتبطة بالإسلام، تعبئ جماهير واسعة، هي ظاهرة مرتبطة بشعوب متخلفة ثقافياً وسياسياً على المسرح العالمي، وهي شعوب لا تستطيع أن تفهم سوى اللغة الظلامية التي تكاد ترتد لعصورها القديمة وحدها. وهو الخطأ الذي تنشره، على نطاق واسع، أدوات الإتصال المسيطرة، التبسيطية، والخطاب شبه العلمي للمركزية الأوربية. وهو خطاب مبني على أن الغرب وحده هو القادر على إختراع الحداثة، بينما تنغلق الشعوب الإسلامية في إطار تقاليد “جامدة” لا تسمح لها بفهم وتقدير حجم التغييرات الضرورية.

ولكن الإسلام والشعوب الإسلامية لها تاريخها، مثل بقية الشعوب، والذي يمتلئ بالتفسيرات المختلفة للعلاقات بين العقل والإيمان، وبالتحولات والتغيرات المتبادلة للمجتمع وديانته. ولكن حقيقة هذا التاريخ تتعرض للإنكار لا على يد الخطاب الأوربي المركزي وحسب، بل أيضاً على يد حركات الإسلام السياسي المعاصرة. فكلا الطرفين يشتركان في الواقع، في الفكرة الثقافية القائلة بأن المسارات المختلفة للشعوب لها “خصوصيتها” المتميزة غير القابلة للتقييم والقياس والعابرة للتاريخ. ففي مقابل المركزية الأوربية، لا يقدم الإسلام السياسي المعاصر سوى مركزية أوربية معكوسة. وظهور الحركات التي تنتسب للإسلام هو في واقع الأمر التعبير عن التمرد العنيف ضد النتائج السلبية للرأسمالية القائمة فعلاً، وضد الحداثة غير المكتملة والمشوهة والمضللة التي تصاحبها. إنه تمرد مشروع تماماً ضد نظام لا يقدم للشعوب المعنية أية مصلحة على الإطلاق.

2 – إن الخطاب الإسلامي الذي يقدم كبديل للحداثة الرأسمالية -والتي تُضم إليها تجارب الحداثة الإشتراكية التاريخية أيضاً-، ذو طابع سياسي وليس ديني. أما وصفه بالأصولية كما يحدث غالباً، فلا ينطبق عليه بأي شكل، وهو، على أية حال، لا يستخدمه إلا على لسان بعض المثقفين الإسلاميين المعاصرين الذين يوجهون خطابهم الى الغرب بأكثر مما يوجهونه الى قومهم. والإسلام المقترح هنا معادٍ لجميع أشكال لاهوت التحرير، فالإسلام السياسي يدعو الى الخضوع لا التحرر. والمحاولة الوحيدة لقراءة الإسلام في إتجاه التحرر كانت تلك الخاصة بالمفكر الإسلامي السوداني، محمود طه. ولم تحاول أية حركة إسلامية، “لاراديكالية ولا “معتدلة”، أن تتبنى أفكار محمود طه الذي أعدمه نظام نميري في السودان بتهمة الردة. كذلك لم يدافع عنه أي من المثقفين الذين ينادون بالنهضة الإسلامية” أو الذين يعبرون عن الرغبة في التحاور مع هذه الحركات. والمبشرون “بالنهضة الإسلامية” لا يهتمون بإمور اللاهوت، وكل ما يبدون إهتمامهم به من الإسلام هو الشكل الإجتماعي والتقليدي للدين، الذي لا يخرج عن الممارسات الدقيقة والشكلية للشعائر. والإسلام كما يتحدثون عنه يعبر عن “جماعة ينتمي إليها الإنسان بالإرث كما لو كانت جماعة”، عرقية” وليس إعتقاداً شخصياً يختاره المرء أو لا يختاره، يؤمن به أو لا يؤمن. فالأمر لا يتجاوز تأكيد “هوية “جماعية”، ولهذا السبب ينطبق تعبير الإسلام السياسي على هذه الحركات تماماً.

3 – لقد جرى إختراع الإسلام السياسي الحديث في الهند على يد المستشرقين لخدمة السلطة البريطانية، ثم تبناه وبشر به المودودي الباكستاني بكامله. وكان الهدف هو “إثبات أن المسلم المؤمن بالإسلام لا يستطيع العيش في دولة غير إسلامية – وبذلك كانوا يمهدون لتقسيم البلاد- لأن الإسلام لا يعترف بالفصل بين الدين والدولة حسب زعمهم. وهكذا تبنى أبو العلاء المودودي فكرة الحاكمية لله (ولاية الفقيه؟!”، رافضاً فكرة المواطن الذي يسن التشريعات لنفسه، وأن الدولة عليها أن تطبق القانون الساري للأبد “الشريعة”. والإسلام السياسي يرفض فكرة الحداثة المحرّرة، ويرفض مبدأ الديمقراطية ذاته -أي حق المجتمع في بناء مستقبله عن طريق حريته في سن التشريعات. أما مبدأ الشورى الذي يدعي الإسلام السياسي أنه الشكل الإسلامي للديمقراطية، فهو ليس كذلك، لأنه مقيد بتحريم الإبداع، حيث لا يقبل إلا بتفسير التقاليد “الاجتهاد”، فالشورى لا تتجاوز أياً من أشكال الاستشارة التي وجدت في مجتمعات ما قبل الحداثة، أي ما قبل الديمقراطية. ولا شك أن التفسير قد حقق في بعض الحالات تغييراً حقيقياً عندما كانت هناك ضرورات جديدة، ولكنه حسب تعريفه ذاته -رفض الانفصال عن الماضي- يضع الصراع الحديث من أجل التغيير الاجتماعي والديمقراطية في مأزق. ولذلك فالتشابه المزعوم بين الأحزاب الإسلامية -راديكالية كانت أم معتدلة حيث إنها جميعاً تلتزم بمعاداة الحداثة بحجة خصوصية الإسلام- والأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوربا ليس صحيحاً بالمرة، رغماً عن أن وسائل الاتصال والديبلوماسية الأمريكية تشير إليه كثيراً لإضفاء الشرعية على تأييدها المرتقب للأنظمة ” الإسلامية” في المستقبل. فالديمقراطية المسيحية قائمة في نطاق الحداثة، وهي تقبل الفكرة الأساسية للديمقراطية الخلاقة، وكذا جوهر فكرة العلمانية.

أما الإسلام السياسي فيرفض فكرة الحداثة، وهو يعلن ذلك حتى وإن كان لا يستطيع فهم مغزاها. وعلى ذلك فالإسلام المقترح لا يمكن وصفه بالحداثة، والحجج التي يقدمها المنادون ” بالحوار” لإثبات ذلك مبتذلة لأقصى درجة، وتبدأ من إستخدام دعاة الإسلام لأشرطة الكاسيت لترويج الدعوة، وحتى لقيام الدعاة بتجنيد الأتباع من بين الفئات “المتعلمة” كالمهندسين والأطباء مثلاً! وعلى أية حال، فخطاب هذه الحركات لا يعرف إلا الإسلام الوهابي الذي يرفض كل ما أنتجه التفاعل بين الإسلام التاريخي وبين الفلسفة الإغريقية في زمانه، كما يكتفي بتكرار الكتابات التي لا طعم لها لإبن تيمية، الذي هو أكثر الفقهاء رجعية في العصر الوسيط. وعلى الرغم من إدعاء بعض الدعاة بأن هذه التفسيرات هي “عودة الى الإسلام في عهد الرسول”، فإنها في الحقيقة عودة الى الأفكار السائدة منذ 600 عام، أي الى الأفكار السائدة في مجتمع تجمد تطوره لعدة قرون. 

4 – والإسلام السياسي المعاصر ليس نتيجة لرد الفعل لإساءات العلمانية كما يدعي البعض كثيراً مع الأسف. ذلك أن أياً من المجتمعات الإسلامية العصرية – بإستثناء الإتحاد السوفياتي السابق- لم يكن في وقت من الأوقات علمانياً بشكل حقيقي، ودع عنك التعرض لهجمات سلطة “ملحدة” عدوانية بأي شكل من الأشكال. فقد اكتفت الدول شبه الحديثة في تركيا الكمالية، ومصر الناصرية، وسوريا والعراق البعثيين، بتدجين رجال الدين “كما حدث كثيراً من قبل”، وذلك بأن تفرض عليهم خطاباً هدفه الوحيد إضفاء الشرعية على اختياراتها السياسية. أما نشر فكرة العلمانية فلم توجد إلا لدى بعض الأوساط المثقفة المعارضة، ولم يكن لها تأثير يذكر على الدولة، بل إن الدولة قد تراجعت في بعض الأحيان في هذا المجال، خدمة لمشروعها الوطني، كما حدث من تطور مزعج حتى في عهد جمال عبدالناصر نفسه بالنسبة لموقف الوفد بعد ثورة عام 1919. ولعل التفسير الواضح لهذا التراجع هو أن الأنظمةالمعنية، إذ رفضت الديمقراطية، فضلت عليها تجانس “المجتمع”، الأمر الذي تظهر خطورته حتى بالنسبة لتراجع الديمقراطية في الغرب المعاصر ذاته. ويهدف الإسلام السياسي الى إقامة أنظمة دينية رجعية صريحة، مرتبطة بسلطات من طرا “المماليك”، أي سلطة تلك الطبقة العسكرية الحاكمة قبل قرنين من الزمان. ومن يراقب عن كثب الأنظمة المتدهورة التالية لمرحلة الفورة الوطنية، والتي تضع نفسها فوق أي قانون “بإدعاء أنها لا تعترف إلا بالشريعة”. وتستولي على كل مكاسب الحياة الاقتصادية، وتقبل، باسم “الواقعية”، أن تندمج في وضع متدنٍ، في العولمة الرأسمالية لعالم اليوم، لا يمكن إلا أن يربط بينها وبين تلك الأنظمة المملوكية. وينطبق نفس التقييم على نظيرتها من الأنظمة المدّعى بإسلاميتها والتي ظهرت مؤخراً.

5 – ولا يوجد اختلاف جوهري بين التيارات المسماة “بالراديكالية” للإسلام السياسي، وبين تلك التي تفضل تسمية نفسها “بالمعتدلة” فمشروع كل من النوعين متطابق. وحتى إيران لا تشذ عن القاعدة العامة، بالرغم من الارتباك الذي حدث عند تقييم نجاحها، الذي تحقق بسبب الالتقاء بين تقدم الحركة الإسلامية، والصراع الناشب ضد دكتاتورية الشاه المتخلفة اجتماعياً والمرتبطة سياسياً بالأمريكان. ففي المرحلة الأولى، عوضت المواقف المعادية للاستعمار للسلطة الدينية من غلواء تصرفاتها الجامحة، وهذا الموقف المعادي للاستعمار هو الذي منح هذه السلطة شرعيتها، كما كانت له أصداء قوية من التأييد خارج إيران. ولكن النظام لم يلبث أن ظهر عجزه عن قبول التحدي المتمثل في اقتراح تنمية اقتصادية واجتماعية مجدّدة. فدكتاتورية العمائم “رجال الدين” التي حلت محل دكتاتورية الكابات (العسكريين والتكنوقراط)، كما يقال في إيران، قد أنتجت تدهوراً خطيراً في الأجهزة الإقتصادية للبلاد. وإيران التي كانت تهدف أن تصبح مثل “كوريا”، قد انتهى بها الأمر أن تنضم الى “العالم الرابع”. وتجاهل الجناح المتشدد في الحكم للمشاكل الاجتماعية التي تواجه الطبقات الشعبية، هو الذي أدى الى نجاح من يسمون أنفسهم بالمعتدلين، لأنهم أصحاب مشروع يمكن أن يخفف ولا شك، من تشدد الديكتاتورية الدينية، ولكن دون التخلي عن مبدأها الاساسي، وهو ولاية الفقيه الوارد في الدستور. يجد نظام الإسلام السياسي في إيران نفسه في مأزق، ويجب أن يصل الصراع السياسي والاجتماعي الذي يقوم به الشعب الإيراني اليوم بشكل صريح، الى رفض مبدأ ولاية الفقيه الذي يضع جماعة رجال الدين فوق كل مؤسسات المجتمع السياسية المدنية، وهذا هو شرط نجاح هذا الصراع. إن الإسلام السياسي هو مجرد تحوير للوضع التابع للرأسمالية الكومبرادورية، ولعل شكله “المعتدل” يمثل الخطر الأكبر بالنسبة للشعوب المعنية. ويعمل التأييد الواضح لدبلوماسية ثالوث الدول الكبرى بقيادة الولايات المتحدة لهذا “الحل” للمشكلة، في فرض النظام الليبرالي للعولمة الذي يعمل لمصلحة رأس المال المسيطر.

6 – لا يتعارض خطاب رأس المال الليبرالي للعولمة مع خطاب الإسلام السياسي، بل هما في الواقع يكمل أحدهما الآخر تماماً. فالإيديولوجية “الجماعية” على الطريقة الأمريكية، التي يجري الترويج لها حالياً، تعمل على إخفاء الوعي والصراع الاجتماعي لتحل محلهما “توافقات” جماعية مزعومة تتجاهل هذا الصراع. واستراتيجية سيطرة رأس المال تستخدم هذه الإيديولوجية لأنها تنقل الصراع من مجال التناقضات الاجتماعية الحقيقية الى العالم الخيالي، الذي يوصف بأنه ثقافي مطلق عابر للتاريخ. والإسلام السياسي هو بالدقة ظاهرة “ماعية”.

ودبلوماسية القوى السبع العظمى، وخاصة الدبلوماسية الأمريكية، تعرف جيداً ماذا تفعل عندما تؤيد الإسلام السياسي. فقد فعلت ذلك في أفغانستان، وأطلقت على الإسلاميين هناك إسم “المحاربين من أجل الحرية”! ضد الديكتاتورية الشيوعية الفظيعة، مع أن النظام الذي كان قائماً هناك، كان مجرد محاولة لإقامة نظام إستبدادي مستنير حداثي وطني شعبي، كانت لديه الجرأة لفتح أبواب المدارس للبنات. وهي مستمرة في هذا التأييد من مصر الى العراق، لأنها تعلم أن الإسلام السياسي سيحقق -لها- إضعاف مقاومة الشعوب المعنية، وبالتالي تحويلها الى الكومبرادورية.

ونظام الحكم الأمريكي، بما عرف عنه من استغلال لأخطاء الآخرين، يعرف كيف يستخلص فائدة أخرى من الإسلام السياسي. فهو يستغل “تخبطات” الأنظمة التي تستلهمه -مثل نظام طالبان- “وهي في حقيقة الأمر ليست تخبطات وإنما هي جزء لا يتجزأ من مشروعها”، كلما فكرت الإمبريالية في التدخل، بفظاظة إن لزم الأمر. والحركات الإسلامية الوحيدة التي تهاجمها بلا تردد القوى السبع الكبار، هي تلك التي تنخرط – بسبب الظروف الموضوعية المحلية – في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، مثل حماس وحزب الله، وهذا ليس من قبيل الصدفة

, ,

أضف تعليق